إن ضرورة استفادة الأجير من الحد الأدنى للأجر تعد قاعدة من النظام العام الاجتماعي، نظرا للطابع المعيشي الذي يكتسيه الأجر، ولذلك نص المشرع على أنه لا ينبغي أن يقل الأجر عن حد معين، حتى يسد رمق الأجير ويضمن ما أمكن الوفاء بالحاجيات الأساسية له، وإن كان ذلك متعذرا بالنظر لغلاء المعيشة والمستوى المرتفع للأسعار.
ونظرا لحرص المشرع الطابع المعيشي للأجر، فإنه يتدخل بكيفية دورية لمراجعة الحد الأدنى للأجر تبعا لمستوى الأسعار.
غير أنه بالرغم من نص المشرع على أنه لا ينبغي أن يقل الأجر عن الحد الأدنى المحدد قانونا، إلا أن كثيرا من المشغلين لا يمتعون الأجراء بهذا الحق الأساسي من حقوق الشغل، وعندما يتم إقامة دعاوى أمام القضاء للمطالبة بتكملة الحد الأدنى للأجر، يدفع بعض المشغلين بأنهم يؤدون للأجراء الحد الأدنى للأجر، مستدلين بشواهد التصريح بالأجور الصادرة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي تشير إلى التصريح بأجر يفوق الحد الأدنى للأجر.
وطيلة حياتي المهنية كنت أردد بأن عبء إثبات استفادة الأجير من أجره بحسب الأدنى المنصوص عليه قانونا يقع على المشغل عملا بمقتضيات الفصل 399 من قانون الالتزامات والعقود.
وأن المشغل لا يمكنه إثبات ذلك إلا من خلال دفتر الأداء المنصوص عليه في المادة 371 من مدونة الشغل، أو على الأقل صور أوراق الأداء الموقع عليها بالتوصل من قبل الأجير عملا بمقتضيات المادة 370 من ذات القانون، أما شهادة التصريح بالأجور لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فإنها لئن كانت تثبت الأجر المصرح به لدى الصندوق المذكور إلا أنها لا تثبت أن الأجير تقاضى فعلا تلك الأجرة.
وكنت أحتج ببعض قرارات المجلس الأعلى سابقا، من قبيل القرار عدد 1758 الصادر بتاريخ 16 أكتوبر 1989 في الملف الاجتماعي رقم 10236/88، الذي جاء في إحدى حيثياته:
« المشغل هو المكلف بمسك دفاتر الأجور و تهيئ بطائق الأداء للمستخدمين و بالتالي فهو الذي يكون عليه الإدلاء بلائحة الأجور السنوية لإثبات أن الأجر الذي يتقاضاه الأجير هو خلاف ما صرح به و لهذا فلا موجب لتطبيق الحد الأدنى في الأجور »
قضاء المجلس الأعلى، العدد 45، الصفحة 93
وببعض قرارات محكمة النقض كالقرار عدد 739 الصادر بتاريخ 29 ماي 2014 في الملف الاجتماعي عدد 509/5/1/2013، الذي جاء في بعض حيثياته:
« لكن، خلافا لما نعاه الطالب على القرار المطعون فيه، ذلك أن المادة 370 من مدونة الشغل تنص على أنه: « يجب على كل مشغل، أن يسلم أجراءه عند أداء أجورهم وثيقة إثبات تسمى « ورقة الأداء »، وأن يضمنها وجوبا البيانات التي تحددها السلطة الحكومية المكلفة بالشغل ».
كما تنص المادة 371 من نفس المدونة: » يجب على كل مشغل أو من ينوب عنه أن يمسك في كل مؤسسة أو جزء منها أو في كل ورشة دفترا يسمى « دفتر الأداء »… ».
وحيث إن الثابت من وثائق الملف عدم إدلاء الطالب بوثيقة الأداء أو دفتر الأداء لإثبات تقاضي المطلوبة لأجرى شهري أبريل وماي 2010 ما دام هو الملزم بالإثبات عملا بمقتضيات الفصل 85 من قانون المسطرة المدنية، وبالتالي فإن تصريحات الشهود المستمع إليهم ابتدائيا بجلسة البحث لا تلزم المحكمة ولا ترتب أي أثر قانوني أمام إلزامية الحجية الكتابية وأن المحكمة مصدرة القرار بعدم مناقشتها للدفع بتوجيه اليمين الحاسمة حسب مقتضيات الفصل 85 من قانون المسطرة المدنية، تكون قد ردته ضمنيا لعدم تأثيره على صحة ما انتهى إليه ويكون القرار غير خارق للمقتضى القانوني المحتج به ومعللا تعليلا قانونيا سليما والوسيلة على غير أساس ».
مجلة قضاء محكمة النقض، العدد 78، سنة 2014، الصفحة 297
وكذا القرار عدد 525 الصادر بتاريخ 4 أبريل 2013 في الملف الاجتماعي رقم 1504/5/1/2012، الذي جاء في إحدى حيثياته:
« حيث تبين صحة ما نعاه الطاعن على القرار، ذلك أن الثابت قانونا أن الأجر يجب أن لا يقل عن الحد الأدنى القانوني المحدد بنص تنظيمي، والطاعن تمسك أمام قضاة الموضوع بكون ما كان يتقاضاه من أجر هو دون الحد الأدنى وطالب بتكملته إلى الحد المذكور مما يجعل عبء إثبات خلاف ما يدعيه على عاتق المطلوبين (المشغلين)، إذ هما المكلفان بالإثبات طبقا لأحكام الفصل 400 من ق.ل.ع ما داما ملزمين وفق مقتضيات المادة 370 من مدونة الشغل بتسليم الأجير عند أداء الأجر ورقة الأداء التي تتضمن بالإضافة إلى اسمه واسم المؤاجر وعنوان هذا الأخير وكذا الصنف المهني للأجير وعدد الأيام والساعات التي اشتغلها، مبلغ الأجر الذي توصل به، كما أنهما ملزمين بمسك دفاتر الأداء عملا بأحكام المادة 371 من نفس المدونة أو اعتماد أساليب المحاسبة الميكانوغرافية أو المعلوماتية أو أية وسيلة أخرى من وسائل المراقبة يراها العون المكلف بتفتيش الشغل كفيلة بأن تقوم مقام ذلك الدفتر وفق ما تقضي به المادة 372، والقرار لما ذهب خلاف ذلك وألقى على الطاعن (الأجير) عبء الإثبات يكون قد أخل بالمقتضيات أعلاه فوجب نقضه وإبطاله »
نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة، الغرفة الاجتماعية،الجزء 13، الصفحة 81
غير أن محاكم الموضوع كانت دائما تستند إلى حجية شواهد التصريح بالأجور الصادرة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالرغم من أن المعلومات المضمنة في تلك الشواهد تم تعبئتها بناء على تصريح المشغل، وأنها تتعلق بالأجرة التي على أساسها تم احتساب الاقتطاعات الاجتماعية، سواء تلك المتعلقة بالتقاعد أو بالتغطية الصحية.
وقد تسنى لي أخيرا الطعن بالنقض في هذه النقطة لمعرفة رأي محكمة النقض في هذا الصدد.
وقد أصدرت محكمة النقض قرارا حديثا تضمن مبدأ إطارا يقوم على قاعدتين، الأولى أن إثبات أداء الأجر بحسب الحد الأدنى للأجر يقع على عاتق المشغل بالوسائل التي حددها المشرع، وهي أوراق الأداء طبقا للمادة 370 من مدونة الشغل، ودفتر الأداء عملا بالمادة 371 من ذات القانون، والثانية أن شهادة التصريح بالأجور الصادر عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لئن كانت تثبت الأجر المصرح به من قبل المشغل، إلا أنها لا تثبت الأجر الفعلي الذي تقاضاه الأجير من المشغل متى نازع فيها المعني بالأمر.
وهو القرار عدد 1766/1 الصادر بتاريخ 26 نونبر 2019 في الملف الاجتماعي عدد 2764/5/1/2017، الذي جاء في إحدى حيثياته:
« حيث ثبت صحة ما نعاه الطاعن على القرار المطعون فيه، إذ أن المشغل باعتباره الملزم بإثبات تقاضي الأجير لأكثر من الحد الأدنى للأجر باعتباره الملزم بتسليم أجرائه ورقة الأداء طبقا للمادة 370 من مدونة الشغل، وباعتباره الملزم بمسك دفتر الأداء طبقا للمادة 371 من مدونة الشغل، وأن شهادة التصريح بالأجور لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإن كانت تثبت الأجرة المصرح بها لدى هذا الصندوق إلا أنها لا تثبت الأجرة الحقيقية التي يتقاضاها الأجير، وأن المحكمة باعتمادها على وثيقة التصريح بالأجور لإثبات أن الأجير يتقاضى أكثر من الحد الأدنى للأجر رغم منازعة الأجير فيها تكون قد خرقت المقتضيات القانونية المستدل بها ويتعين نقض القرار في هذا الشق. »