قدم هذا العرض للمؤتمر 32 لجمعية هيئات المحامين بالمغرب المنعقد أيام 15 و16 و17 ماي 2025 بمدينة طنجة

مقدمة:
يعتقد الكثير من الأشخاص أن قانون المسطرة الجنائية لا يهمهم، وإنما يهم بالدرجة الأولى العاملين في مجال العدالة من قضاة ومحامين ورجالة مؤسسات إنفاذ القانون (خصوصا الشرطة القضائية).
كما يعتقد البعض ان قانون المسطرة الجنائية يهم محاكمة المجرمين.
في حين ان قانون المسطرة الجنائية هو قانون الأبرياء كما يقول دارسو القانون.
لان مهمته الأساسية هو حماية حقوق وحريات الأشخاص. فهو ملتقى العديد من المبادئ والقواعد الأساسية المنظمة للحقوق المدنية والسياسية والإنسانية الأساسية.
ويكفي للدلالة على أهميته ان مبادئه الجوهرية تنظمها قواعد تشكل جوهر الوثيقة الدستورية.

- نظرة تاريخية موجزة:
التنظيم الحديث للدولة المغربية جعل قانون المسطرة الجنائية من أهم النصوص القانونية المكتوبة التي صدرت. بحيث يعتبر ظهير 10 فبراير 1959 نقلا حرفيا، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة، لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية الفرنسي لسنة 1958، والذي عرف عدة تعديلات أهمها التعديل الصادر في 28 شتنبر 1974 بمقتضى الظهير الشريف 1.63.271 المسمى ظهير الإجراءات الانتقالية، والذي بقي حيز التنفيذ لمدة ثلاثين سنة تقريبا مع تغيير مهم سنة 1991 بمبادرة من المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، إلى حين دخول القانون الحالي رقم 22-01 حيز التطبيق. والذي يعتبر من أكثر القوانين المغربية تعرضا للتعديلات، بحيث أدخلت عليه أكثر من 14 تعديلا خلال ما يقارب 20 سنة، منها تعديلات جوهرية أدخلت عليه حتى قبل دخوله حيز التنفيذ بمقتضى القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، ثم القوانين 36.10 و37.10 (حماية الضحايا والشهود والمبلغين) و58.11 (محكمة النقض) و35.11 المتعلقة بملائمته مع دستور 2011، و27.14 (مكافحة الاتجار بالبشر) و103.13 محاربة العنف ضد النساء، والقانون 22.43 المتعلق بالعقوبات البديلة. دون نسيان التعديل الذي طال قانون العدل العسكري بتقليص مجاله باعتباره قضاء استثنائيا.
ورغم هذه التعديلات الجزئية التي مس بعضها مقتضيات جوهرية في القانون فإن مصالح التشريع وخصوصا مديرية الشؤون الجنائية بالسلطة الحكومية المكلفة بالعدل بقيت تعد لأكثر من عشرين سنة، مشروع التعديل الشامل لقانون المسطرة الجنائية، بحيث أعدت المسودة الأولى منذ مناظرة مكناس حول السياسة الجنائية سنة 2004، ثم خرجت مسودة ثانية في سياق الحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة سنة 2014، وتوالت المسودات لحين ان تم وضع مشروع القانون رقم 18.01 الذي بقي حبيس رفوف الحكومة ثم المشروع الحالي 23.03 الذي عرض على الحكومة في قراءة أولى ثم ثانية قبل المصادقة عليه وايداعه امام مجلس النواب.
- السياسة التشريعية:
يجب ان نؤكد ان عملية صناعة القوانين هي عملية سياسية تنبني على اختيارات مرتبطة بتصورات أيديولوجية وسياسية.
خصوصا حينما يكون التشريع موضوع التقنين تشريعا مرتبطا بعلاقة الفرد بمؤسسات الدولة، وبتنظيم كيفية ممارسة الاكراه المشروع من طرف الدولة.
ورغم ان المشروع أشار في تقديمه للنصوص المرجعية التي يدعي اعتمادها، فان الحقيقة هي ان المشروع وضع من طرف اطر وزارة العدل وليس من طرف مركز القرار السياسي فيها.
لذلك جاءت بعض التعديلات ذات طابع تقني اجرائي تهدف اما إلى تجاوز عقبات واقعية في إطار التشريع الحالي، خصوصا بما يسهل عمل المؤسسات المتدخلة في إنفاذ هذا التشريع، او من اجل إضفاء شرعية على حلول إجرائية معمول بها واقعيا.
وجاء المشروع عبارة عن تعديل للنص الحالي بالإضافة والحذف والتغيير.
وبتتبع القناعات التي سبق لوزير العدل او لحزبه او فريقه السياسي، ان عبر عنها في بعض المجالات التي تدخل في دائرة هذا التشريع، ومقارنتها بما تضمنه المشروع من اختيارات، سيتبين ان المشروع لا يعكس هذه الاختيارات السياسية.
وليس من مهام التشريع ان يقدم حلولا مرتبطة باحتياجات من سيقوم بتنفيذه.
وانما يتعين التشريع وفق سياسة عامة تأخد بعين الاعتبار مصلحة الخاضع للقانون وتحقيق التوازن ما بين مصلحته وضرورة تحقيق الاستقرار والامن والانصاف.
- تناسق التصور الحكومي/السياسي لتنظيم قواعد المحاكمة الجنائية:
يطرح مشروع القانون 03.23 سؤال جوهريا حول موضوع تناسق السياسة العامة لتنظيم قواعد المحاكمة الجنائية.
فرغم ان التشريع المتعلق بالمسطرة الجنائية يدخل في مجال القانون المحدد في الفصل 71 من الدستور، فان ارتباطه بالقواعد الأساسية المنصوص عليها في الدستور نفسه حصوصا الحريات والحقوق الأساسية والسلطة القضائية، يجعل التشريع في هذا المجال يكتسي طابعا خاصا يمكن جعله يرقى الى مستوى السياسة العامة المتعلقة بضبط علاقة الفرد بسلطة الدولة وكيفية ممارسة هذه السلطة في ضبط السلوك الاجتماعي.
وقد أشار المشروع في تقديمه إلى مجموعة من الوثائق الوطنية والدولية باعتباره تشكل المرجعية التي اعتمدها في اختياراته التشريعية.
وفي هذا المجال يمكننا ان نقدم قراءة نقدية لمشروع القانون 03.23، في علاقته بخمس وثائق أساسية:
- التقرير الختامي لهيئة الانصاف والمصالحة:
والذي خصص في كتابه الرابع المعنون ب « مقومات توطيد الإصلاح والمصالحة »، فقرة خاصة ب « التشريع الجنائي المسطري الجديد » في سياق « الإصلاحات القانونية الأساسية ذات الصلة بحماية حقوق الانسان ».
والملاحظ ان هذه الوثيقة غابت عن التقديم المتضمن في المشروع، بحيث غابت حتى الإشارة إليها.
رغم ان هذه الوثيقة تضمنت عدة مبادئ بعضها نقلت إلى الوثيقة الدستورية، اذكر منها في سياق النقد « تمتيع كل شخص بالحق في العلم بجميع أدلة الإثبات القائمة ضده ومناقشتها مع الحق في مؤازرة محام ». « وحق هذا الأخير في تقديم ملاحظات كتابية خلال فتة الحراسة النظرية »، و » تقوية دور الدفاع: تعزيز دور المحامي في مختلف مراحل المسطرة »، و « تعزيز وتقوية الضمانات السابقة للمحاكمة »، إلى غيرها من المقتضيات التفصيلية التي تضمنتها الوثيقة المذكورة.
وتضاف هذه المقترحات للمقترحات والتوصيات التي تضمنها التقرير كذلك بخصوص اصلاح منظومة العدالة، ومنظومة المؤسسات العقابية ومنظومة الحكامة الأمنية والتي اقترح التقرير إصلاح الجهاز الأمني وتعزيز المساءلة، وتطوير ثقافة حقوق الإنسان، وتسهيل التبليغ عن أي انتهاكات تحدث من قبل رجال الأمن أو النظام القضائي، وتعزيز التعاون بين السلطات واستحداث مراقبة مستقلة عبر إنشاء لجان أو هيئات مستقلة لمراقبة عمل قوات الأمن والنيابة العامة، مما يساعد على تعزيز الشفافية والثقة بين المواطنين وهذه المؤسسات.
ولا بد ان اشير هنا بصفة عرضية للعديد من البلاغات والآراء الاستشارية للمجلس الوطني لحقوق الانسان حول المواضيع المختلفة للعدالة الجنائية، وخصوصا الرأي الاستشاري حول مشروع القانون 01.18 الذي هو الصيغة السابقة للمشروع الحالي.
- وثيقة تقرير اللجنة المديرية المكلفة بتقييم 50 سنة من التنمية البشرية في آفاق سنة 2025.
هذا التقرير الذي وإن ركز على جانب التنمية البشرية و » تغذية النقاش العمومي وفتحه على أوسع نطاق، حول السياسات العمومية التي يتعين تفعيلها في المستقبل القريب والبعيد »، فإنه شكل خلفية مهمة لخطاب 09 مارس 2011، الذي جاء في سياق ما سمي بالربيع الديموقراطي واسس لدستور 2011.
وقد تميز هذا التقرير باستعراض تاثير السياسات العمومية على الحياة اليومية للمواطنين ومساهمتهم في تطور وتحرير وتثمين وتعبئة الإمكان البشري للبلاد في سياق التنمية البشرية.
وقد سجل التقرير » بطء واعتباطية المساطر الإدارية والقضائية » مسجلا « أهمية تأهيل المؤسسات واستكمال الإصلاحات في عدة ميادين اهمها القضاء »، وفي سياق استشراف المستقبل أكد اهمية » المحاسبة: إن المحاسبة أو تقديم الحسابات، وكذا تطبيق العقوبات الإدارية أو السياسية أو القضائية أو الانتخابية، المترتبة عن نتائج تلك الحسابات، لم تتحول بعد عملة متداولة في بلادنا. وفي المقابل فإن الإحساس بالإفلات من العقاب شجع على التلاعب بالمال العمومي، ودفع إلى تكرار الأخطاء أو التهاون، علاوة على منح مكافأة غير مستحقة للعديد من الأشخاص المفتقرين للكفاءة ». وفي سياق تقييم التباعدات والفروق التي تجسد اختلالات كبرى في علاقة المواطنين بمؤسسات الدولة » هذه التباعدات والفروق تتجسد عبر اختلالات كبرى، ولاسيما في مجالات: القضاء واللامركزية والعلاقات بين الإدارة والمواطنين. أما الرشوة فإنها تمثل تجليا آخر لسوء الحكامة، بما أنها تهدد مصداقية المحاسبة (من خلال التلاعب بالقواعد المنظمة) والإدماج (بتجاهل حق المواطنين في المعاملة المنصفة). وتبرز خطورة الرشوة أكثر في التعامل معها وكأنها سلوك عادي، مما قد يضعف من علاقات الثقة بين المواطنين والإدارة، ويشوش على مناخ الأعمال ».
- دستور 2011:
والذي تضمن كما أشرنا لذلك عدة مبادئ أساسية تهم العدالة بصفة عامة والعدالة الجنائية بصفة خاصة.
مع ملاحظة ان قراءة الوثيقة الدستورية وتحويلها لتشريعية تفصيلية تراوح ما بين قراءة عليا تستحضر سياق التعديلات وطموح الشعب المغربي نحو التقدم في مسار الديموقراطية ترسيخ الحريات، وبين قراءة تعيد محورة هذه المبادئ في اتجاه تقوية سلطة الدولة بدواعي الأمن والاستقرار. وهذا ما سجله تقرير لجنة النموذج التنموي الذي سطر وعلى الرغم من الآمال التي يحملها، فإن الإصلاح الدستوري لسنة 2011 لم يتم تفعيله داخل الآجال المنتظرة ولم يتم إسناده بحلول شاملة ومندمجة بخصوص التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويُفسّر هذا الواقع في جزء منه بالظرف السياسي الجديد تبعا لتطبيق أحكام الدستور ذات الصلة
بتشكيل الحكومة من طرف الحزب المتصدر للانتخابات.
- ميثاق الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة:
هذا الميثاق الذي يعتبر حصيلة حوار رعته السلطة الحكومية المكلفة بالعدل بتكليف ملكي، دام ما يقارب السنة والنصف، من ماي 2012 إلى يوليوز 2013، تضمن عدة مقتضيات تهم تنظيم العدالة الجنائية، في سياق ضبط مسار تنزيل تلك المقتضيات بنصوص قانونية من بينها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية.
تُركز الوثيقة على إصلاح شامل للعدالة الجنائية في المغرب، يهدف إلى تحقيق التوازن بين حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وضمان فعالية وكفاءة منظومة العدالة الجنائية، وتحقيق العدالة في الوقت نفسه. وذلك عبر تسطير عدة اهداف ووسائل إجرائية وتحديد خريطة زمنية.
وتهم أبرز المقترحات في مجال العدالة الجنائية: الحد من الاحتجاز قبل المحاكمة (الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي)، وتحسين فعالية وكفاءة منظومة العدالة الجنائية، من خلال تبسيط الإجراءات، وتسريع وتيرة البت في القضايا، وتقليل الازدحام القضائي. وحماية حقوق الضحايا ووضع آليات للتعويض عن الضرر الذي لحقهم. وتطوير العدالة الجنائية: عن طريق تحديث السياسة الجنائية وتحديث القوانين الزجرية بمراجعة نصوص التجريم والعقاب، وترشيد استخدام العقوبات، وتقليل العقوبات القصيرة المدة، ووضع آليات فعالة لتتبع حالات العود، وترشيد الاعتقال الاحتياطي. وكذلك تحسين آليات البحث الجنائي: من خلال تطوير التقنيات المستخدمة، وتوفير التكوين اللازم للعاملين في هذا المجال، وتحديث الإطار القانوني الخاص بالطب الشرعي وبنوك المعلومات الجينية، وإنشاء مرصد وطني لدراسة ظاهرة الإجرام. وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة: بما في ذلك ضمان الحق في الدفاع، وتوفير مساعدة قضائية قانونية، وسرعة البت في القضايا، وتفعيل مبدأ ملاءمة العقوبة، واستخدام آليات بديلة للاعتقال، وتقليص مدة الحبس الاحتياطي، وضمان حق الطعن أمام جهة قضائية. مع إصلاح السجون من خلال تحسين ظروف إقامة نزلاء المؤسسات السجنية، ووضع آليات فعالة لإعادة إدماجهم في المجتمع. وتقليص مدد العقوبات القصيرة الأمد، واعتماد نظام للعفو، وإيجاد آليات بديلة للسجن.
- وثيقة تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي:
هذا التقرير الذي هو حصيلة لجنة جمعت كفاءات متعددة الاختصاصات اشتغلت لما يقارب السنة ووضعت تقريرا فيه جانب من الرصد وعدة توصيات ومقترحات.
وقد أكد التقرير أنه « يعتبر تعزيز الحريات الفردية والعامة وحمايتها من قبل منظومة العدالة شرطا أساسيا لخلق مناخ الثقة ولتحرير الطاقات. فالتحولات الاجتماعية والثقافية التي يعرفها المغرب والتطلعات الجديدة للمواطنين، المعبر عنها في إطار جلسات الإنصات التي نظمتها اللجنة، تجعل من المستعجل إرساء علاقة جديدة بين الدولة والمواطنين حول ترسيخ واحترام الحريات العامة والفردية »
وفي سياق جواب التقرير عن سؤال « كيف يمكن الجمع بين ضمان الحريات الشخصية والجماعية، التي تعتبر رافعات للعمل والمبادرة، والمواطنة المسؤولة والملتزمة بدعم المصلحة العامة والدفاع عنها؟ » أجاب أن ذلك يتم « من خلال استعادة الثقة، وتوطيد دولة الحق والقانون، ومركزية المواطن واحترام كرامة الإنسان، والدفاع عن الإنصاف، ومن خال تعبئة الذكاء الجماعي ضمن رؤية مشتركة وقيم متقاسمة ».
ومن المهم أيضا ان نشير لكون تقرير اللجنة شدد على « دعم حقوق النساء بارتباط مع مبادئ الدستور وقراءة للمبادئ الدينية تتلاءم مع السياق ».
وقد سجل التقرير أن « الاعتقاد السائد بكون العدالة غير فعالة يسهم في كبح الطاقات. وعلى الرغم من الإصلاحات التي تم إطلاقها لضمان استقلالية القضاء وتعزيز فعاليته والثقة فيه، فإن إحراز النتائج يعرف بعض التأخر: آجال طويلة للبث في الملفات، عدم القدرة على توقع الأحكام، نقص في الكفاءات، ضعف في الشفافية، وقصور على مستوى السلوك والأخلاقيات. إن الممارسات التعسفية، وإن كانت معزولة، وعدم دقة بعض النصوص القانونية وتفاوتها مع الواقع والممارسة يقوي تصور المواطنين والفاعلين بخصوص مخاطر عدم الاطمئنان والتعرض للتعسف في منظومة العدالة. وينظر المواطنون إلى بعض حالات عدم الدقة في الصياغة القانونية على كونها هوامش لتوظيف القانون لأغراض معينة الذي قد يمس ممارسة الحريات العامة والفردية، مما يجعلها بذلك تحد من حرية تعبير المواطنين ومشاركتهم كفاعلين ».
- مفهوم التكافؤ ما بين سلطة الاتهام والدفاع:
يمثل مبدأ التساوي بين سلطة الاتهام والدفاع (المعروف أيضاً بمبدأ تكافؤ الفرص أو الأسلحة أو « equality of arms » حجر الزاوية في منظومة العدالة الجنائية العالمية. يهدف هذا المبدأ إلى تحقيق توازن حقيقي بين أطراف الدعوى الجنائية بما يضمن محاكمة عادلة وفعالة. يتناول هنا باقتضاب مفهوم هذا المبدأ وتأصيله في المواثيق الدولية وتطبيقاته في مختلف النظم القانونية المقارنة، مع تسليط الضوء على التحديات العملية التي تواجه تنفيذه والحلول المقترحة لتفعيله.
- المفهوم والإطار القانوني لمبدأ التساوي بين سلطة الاتهام والدفاع

- تعريف المبدأ وعلاقته بالمحاكمة العادلة
يُقصد بمبدأ التساوي بين سلطة الاتهام والدفاع ذلك المبدأ الذي يضمن توازن الحقوق الإجرائية الممنوحة لأطراف الدعوى الجنائية. وبحسب المفهوم القانوني، يشير مبدأ المساواة في الأسلحة إلى « وضع الأطراف/توازن الحقوق الإجرائية الممنوحة للأطراف » ويعني هذا المبدأ أنه « لا ينبغي وضع أي طرف في الإجراءات الجنائية، سواء كان الدفاع أو الادعاء، في وضع غير مؤات مقارنة بالطرف الآخر ».
تكمن أهمية هذا المبدأ في كونه يضمن أن تكون المواجهة بين الادعاء والدفاع متكافئة، مما يؤدي إلى تحقيق العدالة الجنائية بشكل سليم. وقد أكدت صحيفة وقائع المركز المعني بالحقوق المدنية والسياسية أن مبدأ المساواة بين الأطراف « يضمن أن جميع الأطراف لديها نفس الحقوق الإجرائية وأن أي تمييز يجب أن يكون قائمًا على القانون، وله مبررات موضوعية ومعقولة ولا يؤدي إلى وضع غير مؤات أو عدم إنصاف للمتهم ».
يمثل هذا المبدأ جزءًا أساسيًا من الحق في المحاكمة العادلة، حيث يضمن للمتهم فرصة حقيقية للدفاع عن نفسه في مواجهة سلطة الاتهام التي تملك عادة موارد وإمكانيات أكبر. وبالنسبة للنظام القضائي الأوروبي، فقد طورت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا المبدأ كعنصر أساسي في تفسيرها للمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة.
التطور التاريخي للمبدأ
من الناحية التاريخية، برز مصطلح « المساواة في الأسلحة » لأول مرة في سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان في قضيةSzwabowicz ضد السويد، حيث قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن « الحق في محاكمة عادلة يعني أن كل طرف في دعوى مدنية، وبالأحرى في دعوى جنائية، يجب أن تتاح له فرصة معقولة لعرض قضيته أمام المحكمة في ظروف لا تضعه في وضع غير مؤات بشكل ملحوظ مقارنة بالطرف الآخر ».
استُخدم المصطلح بشكل رسمي لاحقاً في قضية نويميستر ضد النمسا (Neumeister v. Austria) عام 1968، حيث اعتُبر أحد مكونات المحاكمة العادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة. منذ ذلك الحين، شهد هذا المبدأ تطوراً مستمراً في الاجتهاد القضائي الدولي وأصبح عنصراً أساسياً في تقييم عدالة الإجراءات الجنائية.
- مبدأ التساوي في المواثيق والاتفاقيات الدولية
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
يُعد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من أهم الصكوك الدولية التي كرست الحق في المحاكمة العادلة ومبدأ المساواة أمام القضاء. تنص المادة 14 من العهد على أن « الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون ».
كما حددت الفقرة 3 من المادة 14 الضمانات الدنيا التي يجب توفيرها للمتهم، والتي تعد تجسيداً عملياً لمبدأ التساوي، ومنها:
- الإعلام السريع والمفصل بالتهمة وأسبابها بلغة يفهمها المتهم.
- إعطاء المتهم وقتاً وتسهيلات كافية لإعداد دفاعه والاتصال بمحامٍ من اختياره.
- المحاكمة دون تأخير لا مبرر له.
- المحاكمة الحضورية وحق الدفاع شخصياً أو بواسطة محامٍ، مع توفير محامٍ بالمجان إذا اقتضت مصلحة العدالة ذلك.
- مناقشة شهود الاتهام واستدعاء واستجواب شهود النفي بذات الشروط.
- الحصول على مساعدة مترجم مجاناً إذا كان لا يفهم لغة المحكمة.
- عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس أو الاعتراف بالتهمة.
الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
تضمن المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الحق في محاكمة عادلة، وقد اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مبدأ المساواة في الأسلحة جزءاً أساسياً من هذا الحق. تحتوي المادة 6 على مجموعتين من الالتزامات: الأولى تتعلق بالقضايا الجنائية وتحديد الحقوق والالتزامات المدنية، والثانية تخص القضايا الجنائية فقط وتتضمن ستة متطلبات إضافية محددة كضمانات للمتهم.
وقد طورت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان معايير تفسيرية لهذا المبدأ، حيث أصبحت تعكس « الحساسية المتزايدة للجمهور تجاه الإدارة العادلة للعدالة ». وأكدت المحكمة أن مجرد ظهور عدم المساواة أو عدم التوافق مع حقوق الدفاع يكفي لإثبات انتهاك المادة 6(1) من الاتفاقية.
في قضية رو ودايفيز ضد المملكة المتحدة (2000)، اعتبرت المحكمة أن إخفاء أدلة عن الدفاع ينتهك المبدأ حتى لو كان ذلك بدواعي الأمن القومي.
بينما أكدت في قضية كريس ضد فرنسا (2001) أن سرية المداولات القضائية لا تتعارض مع المبدأ ما دامت الإجراءات السابقة قد ضمنت التكافؤ.
المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين وأعضاء النيابة العامة
تحدد المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين المتطلبات الأساسية لضمان حصول الجميع على مشورة قانونية مستقلة. وتؤكد هذه المبادئ على حق كل شخص في طلب مساعدة محامٍ مستقل من اختياره، وعلى حق المحامين في ممارسة مهنتهم بأفضل جهودهم وفقًا للمعايير الأخلاقية المعترف بها.
كما تحدد المبادئ الأساسية واجبات الحكومات في ضمان استقلالية المحامين وتوفير الظروف المناسبة لعملهم، بما في ذلك:
- تمكين المحامين من أداء وظائفهم المهنية دون ترهيب أو عائق أو مضايقة أو تدخل غير مناسب.
- ضمان حصولهم على المعلومات والملفات والوثائق اللازمة لتقديم مساعدة قانونية فعالة لموكليهم.
- منع التمييز في مهنة المحاماة على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو التفضيل السياسي.
- عدم التعرف على المحامين بموكليهم نتيجة لأدائهم لوظائفهم.
- الاعتراف بسرية المراسلات بين المحامين وموكليهم.
في المقابل، تؤكد المبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة على ضرورة توفير ضمانات عادلة للمتهمين والضحايا، حيث تنص المادة 20 على أنه « ضماناً لعدالة الملاحقة القضائية وفعاليتها، يسعى أعضاء النيابة العامة جاهدين إلى التعاون مع الشرطة والمحاكم ومزاولي المهن القانونية وهيئات الدفاع العامة ».
- تطبيقات مبدأ التساوي في القوانين المقارنة
النظام الأنجلوسكسوني
يُعرف مبدأ المساواة في الأسلحة في النظام الأنجلوسكسوني باسم « الإجراءات القانونية الواجبة » (Due Process of Law). وفقًا لما ورد في المصادر، فإن هذا المبدأ هو « النسخة الأوروبية للفكرة الأنجلو-أمريكية المعروفة باسم ‘due process of law' ».
في الولايات المتحدة الأمريكية، يرتبط هذا المبدأ ارتباطًا وثيقًا بالتعديلين الخامس والرابع عشر للدستور، اللذين يضمنان عدم حرمان أي شخص من « الحياة أو الحرية أو الممتلكات، دون الإجراءات القانونية الواجبة ». وتلتزم المحاكم الأمريكية بضمان المساواة بين الادعاء والدفاع من خلال عدد من الإجراءات، بما في ذلك الحق في الحصول على محام، والحق في مواجهة الشهود، والحق في محاكمة أمام هيئة محلفين.
النظام اللاتيني
في النظام اللاتيني ، يظهر مبدأ المساواة في الأسلحة بصياغات قانونية مختلفة. في فرنسا، يتم تعريفه في المادة التمهيدية من قانون الإجراءات الجنائية بأنه « المبدأ الذي يضمن المحافظة على توازن حقوق الأطراف (الاتهام والدفاع ».
كما ينص القانون الفرنسي على أن المساواة في الأسلحة تعني، من بين أمور أخرى، أن « الأطراف يجب أن يكشفوا لبعضهم البعض في الوقت المناسب الوسائل الواقعية التي يستندون إليها في مطالباتهم، وعناصر الإثبات التي يقدمونها، والوسائل القانونية التي يستندون إليها، حتى يتمكن كل منهم من تنظيم دفاعه » (المادة 15 من قانون الإجراءات المدنية).
أما في ألمانيا، فإن مبدأ تكافؤ الأسلحة (Grundsatz der Waffengleichheit) يُعتبر من المبادئ الإجرائية الأساسية ويشكل جزءًا من الحد الأدنى للمعايير الإجرائية في الدول الديمقراطية ذات السيادة القانونية. وهو تعبير عن الحق في الاستماع القانوني أمام المحكمة (المادة 103 الفقرة 1 من القانون الأساسي) والحق في ضمان حماية قانونية فعالة.
في الإجراءات المدنية الألمانية، يمثل تكافؤ الأسلحة المساواة الشكلية للمراكز القانونية الإجرائية للأطراف وتكافؤها المادي بمعنى تكافؤ الفرص الإجرائية، الذي يتعين على القاضي تحقيقه.
- المغرب:
في المغرب، تم التأكيد على مبدأ التساوي بين سلطتي الاتهام والدفاع في الإجراءات الجنائية، من خلال قرار المحكمة الدستورية رقم 921/13 الصادر بتاريخ 13/08/2013. وقد أكدت المحكمة الدستورية على « مبدأ التكافؤ بين سلطتي الاتهام والدفاع ». كما أشارت إلى أن « مبدأ المساواة بين المتهمين أمام قواعد الإجراءات القضائية، الذي يعد من مظاهر المساواة أمام القانون، يقتضي، مبدئيا، أن يتمتع محامو المتهمين وكذا محامو الطرف المدني، في كافة الجرائم، بنفس الشروط وبنفس الآجال لإعداد دفاعهم ».
والملاحظ هنا أن قرار المحكمة الدستورية، الذي يعتبر من ناحية تراتبية النصوص، مكملا للدستور، استعمل لفظ « سلطتي » الاتهام والدفاع، بان اعتبر الدفاع نفسه سلطة.
ثم أسس قضائه على مبدأ اعتبره من المسلمات وهو التكافؤ مابين الاتهام والدفاع.
واستعمال كلمة التكافؤ بدل التساوي، وان كان يوحي باختلاف المفهوم لا يعدو ان يكون في نظرنا استعمالا لكلمة ادق.
لان المطلوب، ليس هو ان تكون للدفاع نفس وسائل الاتهام وصلاحياته، وانما ان يكون له من الصلاحيات والامكانيات القانونية والواقعية ما يمكن به موازاة ما لسلطة الاتهام.
- دور المحامي من خلال مشروع القانون:
لا بد هنا أن نشير إلى أن التغييرات التي عرفتها منظومة العدالة، جعلت من سلطة الاتهام جهازا مستقلا، مهيكلا، هرميا وممركزا.
وهذا له تأثير كبير على كيفية ممارسة هذا الجهاز لصلاحياته، واستفادته من موارده القانونية والمادية.
ولن نحاول هنا التطرق بالتفصيل لمستجدات مشروع القانون 23.03 بخصوص تقوية دور النيابة العامة في ما يتعلق بالبحث التمهيدي ثم تحريك الدعوى العمومية وممارستها، ومتابعة اجراآات تنفيذها وحتى الإجراءات اللاحقة على تنفيذها.
فالنص القانوني جاء أساسا بهذا الهدف الواضح تحت مسمى محاربة الجريمة وتمكين سلطة الاتهام والسلطات الخاضعة نظريا لها من وسائل قيامها بمهامها في ظل تطور وتعقد الظاهرة الاجرامية.
ورغم بعض المكتسبات التي جاء بها مشروع قانون المسطرة الجنائية 03.23 لتعزيز حقوق الدفاع، إلا أننا نسجل عليه نواقص مهمة إذا ما قورن بالتشريعات المقارنة، خصوصاً الفرنسية والأمريكية، والتي تعتبر مرجعية في مجال ضمانات الدفاع والمحاكمة العادلة.
- حضور المحامي أثناء الحراسة النظرية والاستنطاق
- النقص في المشروع: لا يخول المشروع للمحامي الحضور الفعلي مع المشتبه فيه منذ اللحظات الأولى لوضعه تحت الحراسة النظرية، ولا يضمن له مواكبة جميع إجراءات الاستنطاق والمواجهة وقراءة المحاضر والتوقيع عليها، بل يربط ذلك غالباً بإذن من النيابة العامة، ويحدد مدة قصيرة للزيارة (نصف ساعة)، مع إمكانية تأجيلها بطلب من الضابطة القضائية، كما أن الاطلاع على الملف ووثائقه يبقى مؤجلاً لما بعد الاستنطاق الأولي أمام قاضي التحقيق.
- المقارنة مع فرنسا: في فرنسا، يحق للمحامي الحضور مع المشتبه فيه منذ الساعة الأولى للحراسة النظرية دون إذن مسبق، وله الحق في الاطلاع على الملف، وتقديم ملاحظاته، وضمان سرية اللقاء مع موكله (المادة 63-4 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي). كما صدر تعديل سنة 2023 يُلزم بحضور المحامي في جميع الاستنطاقات والمواجهات وقراءة المحاضر وإسداء النصح لموكله أثناء الحراسة النظرية.
- المقارنة مع الولايات المتحدة: النظام الأمريكي يمنح المتهم حق الاستعانة بمحامٍ منذ لحظة التوقيف، ويعد أي استجواب دون حضور المحامي خرقاً لحقوق الدفاع (Miranda Rights)، ويترتب على ذلك بطلان الاعترافات المنتزعة في غياب المحامي.
- النظام الإنجليزي (المملكة المتحدة): يكفل القانون البريطاني للمتهم الموضوع رهن الحراسة النظرية حق الاستعانة بمحام، وحق الحضور خلال الاستجواب أمام الشرطة.
يحصل المتهم على وثيقة مكتوبة بحقوقه، ويُسمح للمحامي بحضور الاستجواب، لكن يمكن منعه في حالات استثنائية (مثل قضايا الإرهاب) أو إذا تدخل للإجابة بدل المتهم أو أعطاه أجوبة مكتوبة2.
عموماً، حضور المحامي فعّال، ويُعتبر غيابه سبباً لبطلان بعض الإجراءات أو الأدلة.
- النظام الإسباني: ينص قانون المسطرة الجنائية الإسباني (المادة 520) صراحة على حق المشتبه فيه في تعيين محامٍ لمؤازرته في جميع الإجراءات، بما فيها الاستجواب أمام الشرطة، ويكون الحضور إلزامياً.
للمحامي الحق في تقديم ملاحظات، وطرح أسئلة، وتقديم اعتراضات أثناء الاستجواب، وتُرفق هذه الملاحظات بمحضر الشرطة.
- حق الاطلاع على الملف وتقديم الملاحظات خلال مراحل البحث التمهيدي والتقديم:
- النقص في المشروع: لا يتيح المشروع للمحامي الاطلاع الفوري والكامل على وثائق الملف ومحاضر البحث أثناء مرحلة الحراسة النظرية، ولا يسمح له بتقديم ملاحظاته أو الاعتراضات بشكل فعال أثناء الإجراءات التمهيدية، مما يضعف من قدرته على الدفاع عن موكله في مرحلة حاسمة من المسطرة.
- المقارنة مع فرنسا: يحق للمحامي الفرنسي الاطلاع على المحاضر والوثائق منذ بداية الحراسة النظرية، وتقديم ملاحظات كتابية تُرفق بالملف، وتُؤخذ بعين الاعتبار أثناء المحاكمة.
- استقلالية المحامي وضمانات الدفاع:
- النقص في المشروع المغربي: المشروع لا يعترف للمحامي بدور مستقل وفاعل في جميع مراحل الدعوى، ويحد من حضوره الفعلي في الإجراءات التمهيدية، كما أن ثقافة العدالة الجنائية ما تزال تميل إلى تقييد دور الدفاع لصالح الضابطة القضائية والنيابة العامة. ولا زال المحامي في ممارسته لهذه المهام، يخضع للرقابة الفعلية للنيابة العامة التي تملك آلية المسائلة التأديبية، كما يخضع لسلطة القضاء الذي يملك سلطة الرقابة على ممارسة المحامي لمهام الدفاع « باعتدال »، تحت طائلة تحرير المحاضر، والمتابعة بجرائم الجلسات.
- المقارنة مع فرنسا: المحامي يُعتبر « مساعد القضاء » ويتمتع باستقلالية تامة، وله حصانة قانونية أثناء أداء مهامه، ويُعد شريكاً أساسياً في تحقيق العدالة، وهو ما تعكسه النصوص القانونية والاجتهادات القضائية الفرنسية.
- المساعدة القانونية واختيار المحامي
- النقص في المشروع: لا ينص المشروع بوضوح على آليات فعالة للمساعدة القانونية تضمن للمتهم المعسر تعيين محامٍ بشكل فوري وفعال منذ بداية الإجراءات، ولا يمنح الحرية الكاملة في اختيار المحامي أو رفضه كما هو الحال في النظام الفرنسي.
- الحق في الحصول على نسخ من وثائق الملف:
تحصل النيابة العامة فور إحالة الملف عليها على نسخة كاملة من محاضر البحث التمهيدي، والتقارير التقنية، والمحجوزات الالكترونية، وتستعملها في مرحلة متابعة البحث التمهيدي، ثم في مرحلة تقديم المشتبه فيه وتتخد على ضوئها قرار المتابعة من عدمه. ثم تحتفظ بنسختها كاملة طيلة المراحل اللاحقة.
ولا يحصل الدفاع على اية وثيقة قبل إحالة الملف على قضاء الحكم او التحقيق.
ومشروع تعديل المادة 139 من ق م ج، يكرس إمكانية حرمان الدفاع من التوصل بنسخة من محاضر البحث التمهيدي، مع انه لا يحدد حق الدفاع في الحصول على باقي وثائق الملف اسوة بالنيابة العامة.
كما انه لا حديث عن الحق في الحصول على نسخ من الوثائق المقدمة على دعامات الكترونية من قبيل التسجيلات السمعية والبصرية، والمستخرجات الالكترونية وغيرها.
- مدى تدخل المحامي أثناء الاستجواب:
يقتصر دور المحامي، حسب المشروع، على الحضور دون التدخل النشط أو الاعتراض على الأسئلة أو تقديم ملاحظات ترفق بالمحضر، ولا يخول له القانون التدخل في سير الاستجواب إلا في نطاق ضيق.
بينما في قوانين مقارنة، يحق للمحامي التدخل الفعلي أثناء الاستجواب، وطرح الأسئلة، وتسجيل اعتراضاته وملاحظاته بمحضر الشرطة، ويُسمح له بتقديم النصح لموكله، ما يعزز فعالية الدفاع.
- غياب الجزاءات عن الاخلالات الشكلية التي تمس حقوق الدفاع:
لعل اهم المقتضيات الغائبة في المشروع هو ترتيب الجزاءات بشكل صريح على خرق او عدم مراعاة المقتضيات الآمرة.
مما يجعل التشدد في تسطير بعض الإجراءات مجرد كلام، ما دام لا جزاء على خرق تلك الإجراءات او مخالفتها.
والمشروع ادخل على المادة 751 من القانون الحالي، تعديلا هو سيف ذو حدين بحيث منح للجهة القضائية المختصة حق تقرير « بطلان الاجراء الذي لم يثبت إنجازه على الوجه القانوني من عدمه وما إذا كان يجب ان يقتصر البطلان على الاجراء المعني او يمتد كلا او بعضا للإجراءات اللاحقة ». فهناك من جهة، اضطراب ما بين اعتبار الاجراء كأن لم ينجز وما بين تقرير البطلان. ثم من جهة ثانية، كيف يمكن للجهة القضائية تقرير عدم بطلان اجراء لم ينجز على الوجه القانوني؟
- القوة الثبوتية لمحاضر البحث التمهيدي:
بينما كان السيد وزير العدل قبل توليه منصبه، ضمن جميع القانونيين الذين ينادون بإنقاص القوة الثبوتية لمحاضر البحث التمهيدي، احتفظ المشروع بهذه القوة الثبوتية، بل ان الصيغة الجديدة للمادة 291 كرستها حتى في المحاضر المتعلقة بالجنايات.
رغم اعتماد تقنيات جديدة للبحث الجنائي، فان العدالة الجنائية ستبقى لعقود قادمة تعتمد الحجة الشفوية في الاثبات من قبيل تصريحات المتقاضي التمهيدية وشهادة الشهود رغم ضررها الكبير في تحقيق المحاكمة العادلة.
كان يمكن للمشروع اعتماد الصيغة المقترحة في المادة 291 على جميع محاضر البحث التمهيدي دون التمييز بين المحاضر المنجزة في المخالفات والجنح وبين غيرها من المحاضر ما دام الجميع يتعين ان يخضع لسلطة المحكمة في تقدير وسائل الاثبات.
- حقوق المشتبه فيه خلال البحث التمهيدي:
لم يراع المشروع بعض اهم ما جاء به التقرير النهائي لهيئة الانصاف والمصالحة وخصوصا:
– تمتيع كل شخص بالحق في العلم بجميع أدلة الاثبات القائمة ضده وحقه في مناقشتها.
– حق كل شخص في مؤازرة محام خلال البحث التمهيدي.
– حق الدفاع في تقديم ملاحظات كتابية خلال فترة الحراسة النظرية.
- تحديات تحقيق التوازن:
تُعتبَر تحديات تحقيق التوازن بين سلطتي الاتهام والدفاع من القضايا المهمة في نظام العدالة الجنائية، إذ تلعب دوراً محورياً في ضمان العدالة الشاملة.
- الافتقار إلى الموارد:

يعتبر الافتقار إلى الموارد أحد التحديات الجوهرية التي تواجه تحقيق توازن فعال بين سلطتي الاتهام والدفاع في المحاكمات الجنائية. إذ ينعكس هذا الافتقار بصورة واضحة على جودة الإجراءات القانونية ومدى قدرة طرفي القضية على إبراز حججهما بشكل متساوٍ. في السياقات القانونية، تشكل الموارد المالية والبشرية والمعلوماتية عوامل حاسمة تؤثر على نتيجة المحاكمات. فالأطراف ذات الموارد المحدودة، مثل دفاع المتهمين في الجرائم، غالبًا ما تجد نفسها في موقع ضعيف مقارنة بالنيابة العامة، التي غالبًا ما تتمتع بميزانية أكبر وكادر مختص.
لا تخصص السياسات العمومية أي دعم لفائدة البحث الجنائي عن وسائل البراءة مقابل الوسائل المادية والبشرية المخصصة للبحث عن أدلة الاتهام. وتعتبر الموارد المخصصة للمساعدة القضائية هزيلة جدلا وغير كافية لتغطية مصاريف البحث الفعال والجدي عن وسائل الدفاع. الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تضاؤل فرص المتهم للحصول على محاكمة عادلة. وعلى النقيض من ذلك، تتوفر للنيابة العامة إمكانية الوصول إلى معلومات شاملة، ومراكز بحثية، وفرق قانونية متخصصة، مما يساهم في تعزيز موقفها في القضية.
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي نقص الموارد إلى رفع مستويات الضغط والتوتر على فرق الدفاع، مما قد يؤثر على نوعية التحضير للقضية، ويتسبب في تراجع مستوى الخدمة القانونية المقررة للمتهمين. لذا، يجب تنمية الدعم المؤسسي للحد من هذه الفجوات، عبر توفير تمويل كافٍ للمحامين الذين يمثلون المتهمين في القضايا الجنائية. هذه الجهود متطلبات أساسية من أجل تحقيق مبدأ العدالة وضمان تحقيق التوازن المطلوب في بيئة المحاكمة، وهو ما يعكس الجانب الحيوي من الفكرة الشاملة للحفاظ على نزاهة النظام القضائي.
- التمييز في التعامل:
يتجلى مفهوم التمييز في التعامل في سياق المحاكمات الجنائية عند النظر في كيفية تفاعل واهتمام نظام العدالة الجنائية مع مختلف الأطراف المعنية، فهو عملية تتجاوز مجرد التطبيق القانوني لتصل إلى تقييم الأساليب والموارد المستخدمة للنظر في القضايا الجنائية.
لا زالت النيابة العامة طرفا امتيازيا في الدعوى الجنائية، بدءا من المكان المخصص لها داخل المحاكم وقاعات الجلسات، في حين يسعى النظام الأنجلوسكسونية لتحقيق هذا التكافؤ بشكل فعلي وحقيقي يحمي حقوق المعروضين على العدالة الجنائية.
من الأهمية بمكان، في سياق تحقيق توازن بين سلطتي الاتهام والدفاع، أن يعمل المغرب على إعادة النظر في موقع سلطة الاتهام من المنظومة القضائية، والتخلص من ارث اتباع النموذج الفرنسي الذي لا زلنا نتشبت به رغم اننا خالفناه في جوهره حينما أسس القانون للنسابة العامة كسلطة قضائية هرمية مستقلة.
- خلاصة:
لا زال مشروع قانون المسطرة الجنائية، بعيدا جدا عن تحقيق التكافؤ المطلوب ما بين سلطتي الاتهام والدفاع. بل لا زال المشروع لا يعتبر الدفاع سلطة أساسا.